إشري نيوز عربية

جريدة مستقلة شاملة

الإرادة البشرية حقيقه ام خداع ؟

الإرادة البشرية حقيقه ام خداع ؟

الكاتبه /شرين الجلاب

 

أوديب نموذجا
تعد اسطورة اوديب وما ترتب عليها من رؤية سفوكليس التي تناولها حين كتب أوديب ملكا واحده من أهم المسرحيات التي كشفت طبيعة الصراع بين البشر بعضهم ببعض وبينهم وبين معتقداتهم الغيبية المتمثله في ايمانهم بالآلهة في الموروث الثقافي الاغريقي وما احدثه سفوكليس من تسليط الضوء الخافت على ما يطلق عليه الاراده البشرية .
فالمدقق في قصة أوديب يدرك مدى الغموض الذي يهيمن عليها في كافة تفاصيلها منذ بدايتها الاسطورية وصولا الى بدايتها المسرحية وما تحتوي عليه من دلالات لها العديد من الجوانب التي من الممكن ان تفسر اكثر من تفسير .
فمنذ معرفة لايوس وجوكستا بالنبوءة ان طفليهما سوف يقتل اباه ويتزوج امه قرر لايوس التخلص منه وقام بثقب قدميه وربطهما واعطاه للراعي ليخلصه منه وفي هذا الموضع تتجلى العديد والعديد من الدلالات حيث :
يتضح ان عملية التخلص هي طاعه وانصياع لامر الالهه خوفا من غضبها ولكن هناك جانب بشري يبرز جليا في هذا الموقف حيث أنانية البشر وجلال الحكم فهذا الطفل يهدد السلطه الحاكمه وهذا يذكرني بفرعون الذي اخبر ان طفلا سيولد ويأخذ منه الحكم فيقتل فرعون كل الاطفال الذكور الا موسى عليه السلام الذي تركه مجرد ليحقق رغبة زوجته وتنفيذا لارادة الله عز وجل .
ففي عملية التخلص من الطفل يثقب لايوس قدما الطفل وربطهما ربما لينزف دماءه ويموت وهو ذاته من قام بفعل الثقب ولهذه القدم المثقوبه دلالتها التي سيطرت على مجريات الامور كافه حيث :
القدم هي العضو الذي يمنح الانسان القدره على الحركة والثبات واقفا ولكن قدم اوديب قدما مثقوبا معيوبا رغم قدرتها على أداء وظيفتها وهذا ظهر في حياة اوديب التي استمرت بكافة مراحلها من نجاح الى نجاح ولكن نجاحا مثقوبا معيوبا .
ففعل الثقب هو فعل بشري من لايوس اريقت من خلاله دماء الطفل بهدف التخلص منه وانعكس الامر تحقيقا للقدر فقد كبر الولد وتربى وثقب قلب ابيه وقتله فاجتمعت رغبة الالهه مع تصفية الحساب بينهما رغم ان كلا منهما يجهل الاخر .
وتأتي ردة فعل جوكاستا التي قتل زوجها ولا تعلم من القاتل فتتزوج من هذا الشاب القوي الذي سيسقي انوثتها التي باتت محرومه في احضان العجوز
لايوس دون ان تبحث من القاتل او تهتم لامره فكأنما اوديب مخلص المدينه من الهوله هو ذاته مخلص جوكستا من الحرمان .
وفي هذا الامر ارجعت الكثير من الآراء ان جوكاستا كانت تعلم ان اودي.

 

 

هو قاتل لا يوس وانه ابنها ولكن رغباتها الانثوية اكبر من البعد الاخلاقي واوافق تماما هذا الراي بل أدعمه بان جوكاستا التي عاشرت اوديب كزوج لم ترى مره ولو صدفه موضع ثقب القدمين الذي احدثه لايوس يوم اراد التخلص منه ؟
كما ان زواجها منه ودخوله الى حياتها مرتبطا بمقتل لايوس الذي يعد جزءا من النبوءة التي خافت منها وزوجها واستجابا لها حيث تخلصا من طفلهما ام ان جوكاستا انتقمت من لايوس الذي حرمها طفلها باستعادتها له استعادة شاذه في فعل انثوي خارجا عن المثل والمنطق .
ويؤكد معرفتها بامره مواضع كثيره في حوار الشخصية في المسرحية عند سفوكليس .
ويأتي امر الراعيان اللذان كانا السبب الرئيسي في تحقق النبوءه حيث لم يتخلص الراعي الاول من اوديب واعطاه لراعي غيره الذي بدوره اسلمه الى ملك وملكة كورنثا ليترعرع بينهما شابا ..
وهنا اطرح سؤالا هل الراعيان وسيلة من وسائل الآلهه في تنفيدذ ارادتها ؟
ام هل جاء تصرفهما نابعا من طبيعتهما الانسانية وجهلهما بالنبوءة وخطورتها ؟
ومثلما اتسمت رحلة التخلص من اوديب بسخرية القدر من البشر في هروبهم منه واليه جاءت رحلة هروب اوديب من قدره واليه فقد كان خلاصا عبثيا خلا من التعقل واتسم بالافراط الذي اعتبره ارسطو سببا في شقاء ابطال تراجيدياته .
وبدون مقدمات تحول الباحث عن الخلاص اليائس من حياته الى مخلصا لمدينة باكملها من خلال انتصاره على الهوله ذلك الكائن العبثي الذي ارادت الآلهه ان تعلي من شأن الغرور في نفس اوديب وتصديقه لنفسه في انه استطاع الهروب من قدره لتزداد متعة المطاردة وتشويقها رامية طعمها المتمثل في سذاجة السؤال الذي لم يجيب عليه سوى اوديب وحده فيخلص المدينه منها ويكبل عنقه بقيود لعنته .
وتستمر الدلاله الرمزية للثقب تتسع مع زيادة عمرها واتساع رقعتها الى ان حانت اللحظة التي خالف بها سفوكليس القواعد الكلاسيكية الارسطية وبدأ بالنهاية بالذروة حيث البداية عبثية ملكت انتباه المتلقي محدثة صدمه في وجدانه وعقله خرجت بسؤالواحد : ماذا حدث ؟
فالمقدمات لم تؤدي لنتائجها المنطقية تلك العبثية كانت وسيلة سفوكليس ليؤكد ان النهاية تتمثل في انتصار الآلهه مهما بلغت ارادة الانسان .
ويحضرني سؤال لماذا انتظرت الآلهه كل هذا الوقت لتنزل غضبها ؟
لماذا لم تعاقب اوديب منذ البداية ؟
وهنا اجتهدت نفسي لتجيب ففي انتظار الآلهة فرصة حقيقية لاتساع الثقب وكبر لحجمه وزيادة اضراره حتى تحول الثقب الى هوة ابتلعت صاحبها .
وهنا تتفتح لنا دلالات كثيره لما يحمله الثقب من معاني حيث :

 

 

الثقب جزء صغير من الكل وبالرغم من ذلك فانه يفسد الكل ويدمره ويتضح هذا في تاريخ اوديب الطويل المليء بالانجازات في فترة حكمه لشعبه وانجابه من جوكاستا وما حققه من حياة رغده وسعيده لمدينته الا انها سعاده مثقوبه معيوبه كان ثقبها اوديب نفسه او بالاحرى قاتل لايوس مازال على قيد الحياه .
وتستمر الآلهه تتلاعب بدميتها تلك الدمية التي حولتها الى موطنا للأضداد والمتناقضان فبها يجتمع الحاضر والماضي في آنية الحدث فاثناء البحث عن القاتل يتجلى الماضي المتسبب في الحاضر وبها اجتمع من كان سبب الخلاص غدا سبب اللعن والباحث عن ارضاء الآلهه هو ذاته مغضبها وسبب لعنها للمدينه.
وترتفع حدة التمزق الذاتي لاوديب فيتحول الى حالة من التمرد والتساؤل تساؤلا وجوديا فمن يكون هو ؟وما علاقته بالالهه ؟ وما امنيات الالهه؟
فيصل الى جواب انه لا شيء ولكن هل دلالة انه لا شيء تعني ان ارادته ليس لها وجود وليس في استطاعته ان يفعل شيء سوى ما ترغب به الالهه ؟
تلك التساؤلات التي خرجت من بوتقة الوجودية الملحده التي تقودنا الى تساؤل هام : ماهي الطاعة ؟ كيف يمكن ان تكون ؟ هل الطاعه في تحقيق رغبات الالهه وان كانت هدفها تعذيب البشر ؟ هل نطيع لاننا نخشى العقاب ؟
هذه التساؤلات تنقلني الى سؤال جديد من يريد طاعة من ؟
هنا تنفتح امامنا فكرة العلاقة بين الدين والسياسه او استخدام السياسه للدين لتحقيق رغباتها فالبشر منذ بداية الخلق يبحثون عن مرجعية لهم او ميثاق علوي ينظم حياتهم ودائما ما يتبنى هذا الامر المفكرين واصحاب التامل والبحث عن الغيبيات وهي وسيلة الانبياء والرسل للوصل الى الخالق عز وجل فالمعتقدات الدينية الاغريقية خلقها البشر وصدقوها وعبدوها لان الانسان جبل على ان يكون له سقف لا يتعداه وقد دعمت هذه الافكار الدراما الاغريقية التي كانت تقدم في المسرح في احتفالات الالاه دينيسيوس وكان الجمهور من الحكام والامراء والنبلاء وعامة الشعب فقد سعدت الفئات المختلفه بفكرة التبعية في الطاعه فدائما الصغير يطيع الكبير والضعيف يتبع القوي وهو امر يرضي المجتمع الاثيني المتحضر ثقافيا الذي اطلق عليه العصر الذهبي ولكي يكون كلامي اكثر تأكيدا يجب ان اشير الى بروميثيوس سارق النار من رب الارباب زيوس ليساعد يها البشر فيعاقبه زيوس على ذلك وهنا يتضح جانبا هاما ان النار تعني التنوير والحضاره والفكر والمعرفه والتثقيف وهذا يخلق الوعي ذلك الوعي الذي يجعل الانسان يتسائل ليقتنع ومن ثم ينفذ وهو ضد الفكر النابع من السلطه ونفس الامر مع الكنيسه في العصور الوسطى فقد كانت تقتل المفكرين والعلماء والفلاسفه ولا ننسى هيباتيا وما حدث بها وكل ذلك له مرجعية واحده هو الطمع في السلطه والسيطره عن طريق التجهيل .
ولكي يتقلد اوديب دور المخلص للمدينه من جديد فقد خلصها في السابق من الهوله وعليه الان ان يخلصها من هول فعلته عاقب نفسه في سمو وجلال البطل التراجيدي بفقأ عينيه ونفيه لنفسه .
ففي فقأ عينيه دلالات ايضا حيث : ان هاتين العينين لم تقوما بوظيفتهما فكان عليهما غشاوة ولم ترياه الحقيقه على عكس تريزياس الكاهن العجوز الاعمى الذي ابصر الحقيقه رغم عماه فكأنما اوديب انتقم من العضو الذي تسبب في اغفاله للحقيقه ووقوعه في سطوة غضب الالهه .
كما ان عملية الوخز او الثقب هي ثاني مرة تحدث مع اوديب بعد ان وخز ابيه قدميه واراق دمه ليتخلص منه لارضاء الالهه في ظاهر الفعل واوديب يريق دمائه من جديد ليتحول الى قربان يتسول به عفو الالهه في صورة مخادعه للارادة البشرية فكانما اكد اوديب انه بيده لا بيد عمر عاقب نفسه وانما الحقيقه انه قدم نفسه قربانا يفتدي بها ليرضي الالهه ليخلص شعبه من الجفاف والطاعون الذي تسبب فيه في حالة من تحمل المسئولية السياسية من الحاكم تجاه شعبه في شكل من السمو التراجيدي المطلق .
ولاراقة الدماء دلالتها في تقديم القرابين منذ قابيل وهابيل مرورا باراقتها في اعياد دينيسيوس وشرب الناس للدماء وفي المسيحيه استبدل الدم بعصير العنب الاحمر الذي يحمل لون الدم تاكيدا ان المسيحية تدعو للسلام على عكس افعال رجال الكنيسه .
ولم يكتفي بذلك بل نفى نفسه وفي موضوع النفي نوع من الزهد والتجرد من مباهج الحياه فكانما اراد اوديب ان يثبت انه تنازل عن كل شيء ولا يرجوا سوى العفو والغفران ليس لنفسه البائسه وانما بشعبه التعيس .
وهنا ينتهي غضب الالهه بشقاء اوديب فتعفوا عنه وتحوله الى قديس الا ان لعنتها دامت لنسله من بعده ومأساته تنبض بالحياة الى اليوم مؤكدة ان الارادة البشرية ما هي الا وسيلة لتحقيق الاراده الالاهية .